إنّ كل قائد سريّة على خطّ الشمال له تأثير على ما سيحدث في بيروت. إنّ كل اختراق، كل عملية وكل تصريح، يسجّل فوراً على كفّتي ميزان المواجهة الحسّاس داخل لبنان. ولهذا من واجبنا أن نوزن خطواتنا بشكل جيد. مَن يريد أن يأكل عنباً (أن يقضي على مخرّبين) يجب عليه الحرص على ألّا يقتل الناطور (النظام اللبناني)، وبأي شكل من الأشكال لا ينبغي الإذعان للتوصيات القاضية بالاقتحام وبالضرب كالفيلة في حانوت الأواني الخزفية».
استرجاع ما ورد في ذلك المقال اليوم يهدف بالدرجة الأولى إلى تحذير النظام اللبناني، الذي يواجه الشعب اللبناني وليس منظمة التحرير الفلسطينية هذه المرة، من أنّ محاولته القضاء على المقاومين اللبنانيين تفرض عليه الاستعانة بالأميركي وبالتالي الصهيوني، إضافة إلى أنظمة التطبيع. لكن كل حقن التشجيع لن تحول دون غرق اللبنانيين في بحر من الدماء لا يمكن مقارنته بما حدث في الحرب الأهلية.
إذا كنت ضعيفاً، وترفض بناء قوة دفاعية تحمي المواطن والأرض، ورفضك سببه فقط تعهّدك لمن هبط بك ووضعك في كرسي السلطة، بأن تنفّذ ما يريده، فأنت حتماً تقامر بلبنان وبمصير اللبنانيين، وهذا أمر لن يمرّ بسهولة كما يتوهّم أصحابه. فقط انظرْ حولك وشاهد النتائج. هذا زميلك في الانصياع محمود عباس يقبع في رام الله كالدجاجة، وقوات الجيش الإسرائيلي تبتلع ما تبقّى من فلسطين تدريجياً على مرأى من العالم. وضع لبنان مماثل لوضع محمود عباس.
يومياً يُقتل اللبنانيون، ومسيّرات العدو في سماء لبنان، والاحتلال يتوسّع جنوباً. ومشاريع الصهاينة، منع سكان القرى الأمامية من الوجود في قراهم المدمّرة ليس إلا خطوة لتحقيق حلمهم القديم بالاستيلاء على المنطقة حتى مجرى الليطاني. وكما يصمت محمود عباس على ابتلاع الصهاينة الأرض، يصمت أهل السلطة في بيروت أيضاً، لدرجة أنه يمنع عليهم إصدار بيان استنكار لا قيمة له، أو تقديم شكوى للأمم المتحدة. هذا الصمت المطبق لا تفسير له سوى عدم البوح بتمنّياتهم وملخّصها: واصلوا القتل والقصف إلى أن نصل إلى مرحلة يسهل علينا فيها تنفيذ رغباتكم. نعم، النسخة المطابقة لمحمود عباس تحكم في بيروت!
أيها المتحمّسون لقتل مَن قاوم الاحتلال في لبنان، هل تتّعظون ممّا يجري في فلسطين؟ لا أعتقد أنّ عقولكم قادرة على استيعاب هذا الأمر أبداً. اقتحام رام الله، عاصمة متجر عباس، يبرهن للجميع على أنّ السلطة الكرتونية التي تنسّق ليلاً ونهاراً مع الاحتلال هي مجرّد أوهام. لا سيادة ولا مَن يحزنون! وما روايات حلّ الدولتين أو دولة فلسطينية عاصمتها القدس إلا خيال ووهم.
الاحتلال يقتل شباب فلسطين في قطاع غزة والضفّة الغربية، ويبني المزيد من المستوطنات، ووزير المالية سموتريتش يَعد المستوطنين بالتبرّع لبناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى، وفي نفس الوقت تحافظ سلطة الاحتلال على سلطة محمود عباس، تماماً كما عبّر يعري في مقالته أعلاه، وكذلك تحرص على السلطة الحالية في بيروت.
هذا الصمت المطبق لا تفسير له سوى عدم البوح بتمنّياتهم وملخّصها: واصلوا القتل والقصف إلى أن نصل إلى مرحلة يسهل علينا فيها تنفيذ رغباتكم. نعم، النسخة المطابقة لمحمود عباس تحكم في بيروت!
وفي حال لم يقتنع حكّام لبنان بما يحدث في فلسطين وتجربة عباس، بإمكانهم مشاهدة ما يحدث يومياً في الشام. حكام دمشق يتصرّفون مثل محمود عباس كالنعامة التي تضع رأسها في الرمل. مسرحية الفرح بـ«انتصار الثورة» انتهى مفعولها سريعاً. الجولان أصبح في خبر كان، ودفعوا أبناء جبل العرب للوقوع في حضن إسرائيل، لأنّ الحضن العربي قام بالتغطية على جرائمهم بحق الدروز، رغم أنّ الاستنجاد بإسرائيل جريمة تشبه جريمة نظام دمشق.
لن نتحدّث عمّا جرى ولا يزال يجري من جرائم بحق العلويين، ولا عن مذبحة كنيسة دمشق، ولا عن القتل اليومي ومصادرة البيوت، والتهجير العنصري لأصحابها... لكن رغم كل هذا الأداء التدميري للنسيج الاجتماعي في الشام، الذي يستفيد منه الصهاينة فقط، ورغم اعتبار حكام دمشق ألّا أعداء لهم إلا إيران وحزب الله، فإنّ كل ذلك الانبطاح أمام الصهيوني والاتصالات المباشرة بوساطة تركية وقطرية تارة وأميركية تارة أخرى، وبدون أي مقابل، لم يوقف توغّل الجيش الصهيوني في الجنوب السوري ووصوله إلى ضواحي دمشق، ناهيك عن القصف الجوي وعمليات الإنزال في القواعد العسكرية السورية. وهكذا يتّضح أنّ نتنياهو لا يهدف فقط إلى احتلال ما يراه مناسباً من الأرض السورية في مسيرته نحو إسرائيل الكبرى، بل يريد أيضاً الإمعان في شرذمة الشعب السوري وتقسيمه، وهذا كان طموح القادة الصهاينة منذ ما بعد العام 1920.
إذاً، أمام حكام لبنان التجربتان الفلسطينية والسورية، وأمامهما تجربة الوعود الأميركية التي قدّمها سابقاً زميل توم برّاك المدعو فيليب حبيب – وللمهزلة هما لبنانيا الأصل - وما أعقب تلك الوعود من مجازر صبرا وشاتيلا التي نفّذها الصهاينة وحلفاؤهم في لبنان. بعد كل تلك التجارب يدرك اللبنانيون أنهم سيتعرّضون إلى مصير مشابه لما حدث سابقاً. ومن هنا تنبع القناعة باستحالة الاستسلام، رغم الحرب العسكرية والنفسية التي تُشنّ يومياً من قبل العدو وحلفائه من المرتزقة في لبنان، الذين يقتاتون من مال النفط العربي وبعضهم يداه تقطران بدماء اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين.
باعتقادي أنّ مَن يتوهّم بقدرته على تكرار تجربة الجيش الأردني مع الفلسطينيين واهم وغارق في أحلامه. مجرد المحاولة سيمزق لبنان بحيث يصبح من المستحيل جمع هذا التجمّع المختلف المذاهب في بوتقة واحدة. النظام اللبناني المهدّد يناور ويتذاكى لكنه لا ييأس من محاولة إنقاذ رموزه. لبّ الصراع الحالي هو وجود لبنان حرّ من الوصايات.
ولن يستطيع النظام التفلّت من ضغوظ الصهاينة عبر الأميركيين وحلفائهم في لبنان والمنطقة العربية، إنه أمام خيار وحيد: الفتنة وقتل شعبه! الأمر الذي يعني دمار كل شيء.
باختصار، الموضوع ليس تدمير السلاح الذي حرّر لبنان من الاحتلال، بل سيطرة شاملة على جنوب الليطاني ومحاولة إفراغ المنطقة بشكل كامل، تمهيداً لوضع الحكم في بيروت تحت الهيمنة الإسرائيلية من دون الحاجة إلى وجود حاكم عسكري إسرائيلي في بيروت. ومَن دفع ثمناً باهظاً لتحرير الأرض هو في المرصاد، يقف سدّاً منيعاً في وجه الفتنة الإسرائيلية التي ستكون، إذا حدثت، أسوأ من الفتنة الإسرائيلية التي نفّذت بأيادي لبنانيين في الحرب التي اندلعت عام 1975، كما أنها ستنهي إلى الأبد، لبنان الذي نعرفه.
كاتب لبناني

